من القلب / قصص وذكريات مع تميمة سلام رمز التواضع والرقي في زمن لبنان الجميل
السيدة تميمة سلام والدة رئيس وزراء لبنان الرئيس تمام سلام خلال النزهة اليومية مع مي سربيه على كورنيش رملة البيضاء في بيروت

قصص وذكريات مع تميمة سلام رمز التواضع والرقي في زمن لبنان الجميل

عرفتها منذ طفولتي إذ أن صداقة عمر وسنوات طويلة جمعت بين رئيس وزراء لبنان الراحل صائب سلام ووالدي محمد بديع سربيه، والعلاقة بينهما لم تكن علاقة رجل سياسي بصحفي ــ اذ ان والدي كان صاحب ورئيس تحرير مجلة "كل شيء" السياسية وكانت من أبرز المجلات السياسية في لبنان والوطن العربي ــ بل كانت علاقة صداقة ومحبة وثقة، ومن هنا كانت العلاقة أسرية بينهما وهكذا عرفت السيدة الراحلة الحبيبة "تميمة" حرم الزعيم صائب سلام، والحقيقة أن والدتي نادية سلام والراحلة "تميمة سلام" أصبحتا صديقتين منذ التقيتا واستمرت صداقتهما خمسين عاماً مما أتاح لي معرفة الحبيبة الراحلة عن قرب، وأصبحت لي ذكريات كثيرة معها، أثبتت لي كم أن هذه السيدة هي كتلة من المشاعر الدافئة مزينة بكرم الأخلاق والاحترام محصّنة بالمبادئ، متمسكة بأرقى تقاليد بنات الأسر الكريمة.

        ومع أنها كانت زوجة لزعيم سياسي من بين أهم زعماء لبنان، وأحد رجالات استقلال لبنان ومن أبرز رجال النضال السياسي، كانت حريصة على أن تكون دائماً في ظله، داعمة له ببناء أعمدة الحب والاستقرار في أسرته.

        كانت عنواناً للتواضع لم تبهرها يوماً إغراءات الحكم، بل كانت زاهدة بكل امتيازات السلطة وبريق الشهرة وصخب الحياة الاجتماعية، لأنها كانت تعتبر أن الدور الأهم إلى جانب أن تكون زوجة زعيم سياسي أن تكون زوجة ناجحة وأماً حانية.

        وحول زهدها بامتيازات السلطة تروي لي والدتي أن الرئيس الراحل صائب سلام كان مرة مدعواً بدعوة رسمية لزيارة القاهرة كونه كان رئيساً لوزراء لبنان، فسبقها إلى القاهرة وكان برفقته والدي محمد بديع سربيه الذي كان مستشاراً له، واتفقا أن تسافر السيدة "تميمة" إلى القاهرة بعده بيومين، وكانت معها والدتي في رحلتها، وعند وصول السيدة "تميمة" إلى المطار رفضت أن يُفتح لها صالون الشرف وجلست في صالون الركاب العاديين بلا بهرجة الرسميات التي كانت لا تعنيها.

        ذكرى أخرى ما زلت أحتفظ بها عن عفوية هذه السيدة وطيبتها.

        عندما ترك الرئيس صائب سلام لبنان وسكن في فرنسا، دعانا مع والدي إلى الغذاء في منزل كان يقيم فيه في Montfort-l'Amaury وحملت كاميرتي وصوّرت تواضع السيدة "تميمة" وهي تساعد بنفسها في تحضير المائدة.

        وعندما انتقل الرئيس صائب سلام إلى جنيف، كان والدي يزوره باستمرار حيث كان بصدد كتابة مذكراته التي يروي فيها حقبات من تاريخ لبنان. وفي مرة كنا مدعوين للغذاء في منزلهما في جنيف ورأيت كيف كانت السيدة "تميمة" تخاف على زوجها وتحيطه بكل مظاهر الحب رغم سنين زواجهما الطويلة، فهما كانا مثالاً لزوجين خاضا معاً الحياة بحلّوها ومرّها وظل الحب يظلل حياتهما. وأذكر يومها أننا جلسنا إلى الطاولة لتناول الغذاء وكان الطبق الرئيسي كبّة بالصينية، ولأن الطبيب كان قد أعطى تعليماته بأن يكون طعام الرئيس سلام بلا ملح، كان الأكل كله بلا ملح، حتى للضيوف فتذوقت الكبّة وأذكر وقتها أن طعمها كان معطراً بنكهة الحبّ التي كانت تحيط به السيدة "تميمة" زوجها...

        ومع كل لقاء بيني وبينها، كانت تترسخ عندي فكرة كم هي سيدة مميّزة.

        وبعد رحيل والدي، وبعد رحيل الرئيس سلام، كانت اللقاءات بينها وبين والدتي كثيرة، وكان اللقاء يومياً عند السادسة مساءاً، كانتا تلتقيان عند الطريق الأعلى لكورنيش "الرملة البيضاء" على شاطئ بيروت، لتمارسا رياضة المشي.

        وفي عام 2005 كنت قد أصبت بحادث سير ألزمني الفراش نتيجة لكسور في أضلع القفص الصدري، وفي فترة النقاهة أصرتا عليّ أن أرافقهما في نزهتهما اليومية التي كانت تبدأ بتوزيع الحبيبة الراحلة ورود الغادرينيا علينا والتي كانت تقطفها من حديقة منزلها ثم تبدأ نزهتنا. وكانت تتحدث في كل شيء عن السياسة، عن البلد وهمومه، فهي كانت كل يوم صباحاً تقرأ الجرائد وهي بكامل أناقتها، حريصة على وضع حلقها اللؤلؤي الأبيض، تتصفح الجرائد وتقرأ عن كل ما يدور في البلد.

        وفي نزهتنا اليومية كنا نحن الثلاثة نمشي جنباً إلى جنب. ومرة رأيتها تجري مسرعة لتحمل حجراً كان في وسط الطريق، فقلت لها تمهّلي لأساعدك فأزاحته قبل مساعدتي أو مساعدة سائقها قائلة: يجب إزاحة الحجر حتى لا يتعثّر به أي شخص، تواضع، أخلاق، هذه هي "تميمة سلام".

        وفي الشتاء عندما كانت تجتمع بوالدتي في غرفة الجلوس في منزلها كنت أراها تحيك كنزات صوفية، فلما سألتها لمن تحيك هذه الملابس قالت لي بأنها تهديها للأطفال اليتامى...

        هذه هي "تميمة سلام" رقيقة، راقية لا تعنيها بهرجات السلطة والنفوذ لتعيش في عالم من المحبة والهدوء والحنان الأسري.

        أما آخر لقائي بها، فكان عندما أصبح الرئيس تمّام سلام رئيساً للوزراء وكان من الطبيعي أن نذهب أنا ووالدتي لتهنئته، وكانت صحتها قد بدأت تضعف، وكذلك ذاكرتها، فلم تكن تستقبل المهنئين وظلت في بيتها في الطابق العلوي في منزل "آل سلام" في المصيطبة. ولكن والدتي قالت للسيدة المميّزة "لمى" حرم رئيس الوزراء تمّام سلام:

- منذ خمسين عاماً وأنا آتي إلى هذا المنزل، وحبيبتي "تميمة" كانت دائماً في استقبالي بابتسامتها، كيف لي أن أكون في هذا المنزل اليوم ولا ألتقيها؟

فقالت السيدة "لمى": أعرف مدى صداقتكما وأكيد عليك أن تلتقيها فهي ستسعد بك، وفعلاً صعدنا إلى الطابق العلوي وكانت بكامل أناقتها، فقالت: أهلاً نادية كيفك، وكيفن بناتك؟ وجلست هادئة وأمامها الجرائد، وتبادلنا بعض الأحاديث وفرحنا إنها ما زالت تذكرنا وتذكر محبتنا لها فقلت لها:

- نحن هنا لتهنئتك لأن إبنك تمّام أصبح رئيساً للوزراء.

فابتسمت وقالت رئيساً للوزراء، الله يساعده...

وبالفعل ليكن الله في عون الرئيس سلام وهو يسير بمركب الحكم وسط أمواج القوى السياسية وقوى الفساد المتلاطمة.

رحم الله الحبيبة "تميمة سلام" فهي امرأة مميّزة في زمن الرقي الجميل.

 

  مي سربيه شهاب