شارع النجوم / مشوار مع فاتن حمامة (8)/ فاتن حمامة وذكرياتها اللبنانية
فنانون: فاتن حمامة
فافاتن حمامة عندما استقبلت في منزلها محمد بديع سربيه وسمحت لعدسة «الموعد» بالتصوير

مشوار مع فاتن حمامة (8)/ فاتن حمامة وذكرياتها اللبنانية

كتب الراحل محمد بديع سربيه عام 1989:

هذا اللقاء خصّت به سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، الزميلة «كل شيء» التي أصبحت ترى في صفحاتها صورة لبنان ما قبل الحرب، الذي أحبته وزارته أكثر من مرة..
ولأن الحديث ممتع، وطريف، وجديد منه، فإنني أستأذن السيدة فاتن حمامة في ألّا أحرم منه قراء «شارع النجوم» الذين، بدورهم، اشتاقوا الى أحاديث سيدة الشاشة العربية..
في كل مرة منذ أربع عشرة سنة وحتى الآن، كانت سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، كلما التقيت بها في بلد، أو مكان، أو حفل تبادر الى سؤالي:
• ايمتى حتخلص الحرب في لبنان؟
وعندما أردّ عليها، ودائماً، بأن الخلاص لا بد أن يأتي، مهما طال مخاض السلام، فإنها كانت تتنهد وتقول:
• بيروت وحشتني، بحبها جداً..
وفعلاً وعلى امتداد السنين كنت دائماً أعرف أية سعادة تحسّ بها فاتن حمامة عندما تكون في بيروت، وحب اللبنانيين يغمرها من كل صوب، ومشاعر الإعجاب بها والاحترام لها تقرأها في العيون منذ اللحظة التي تنزل فيها من الطائرة الى أرض بيروت..
ولعل أحلى ما أذكره عن زيارات فاتن حمامة الى بيروت، هو أنني دعوتها في أحد الأيام الى سهرة مع عدد من الأدباء والفنانين والصحفيين اللبنانيين، وكان في مقدّمة الحاضرين الشاعر الكبير الراحل ميشال أبو شهلا، الذي لم يكن من جمهور السينما أصلاً، ولكنه بعد نصف ساعة من جلوسه الى سيدة الشاشة العربية، أعلن أنه سيدخل دور السينما لأول مرة في حياته، وسيشاهد جميع أفلامها، ولم يكتف بذلك، بل ارتجل في وصفها خمسة أبيات شعرية ما زلت أحتفظ بها وهي:
يا فاتن الألحاظ والخد
وضمة النرجس والورد
قد أفلتت من جنة الخلد
حمامة للسلم أم للردى
الحسن والفن إذا استجمعا
أسخى عطاء الله للعبد
سبحانه لما نماك لنا
أعطى بلا وعد ولا حد
سلمت للفن سنا مشرقا
ودام لي من السنا وجدي

إن هذه السهرة كانت في عام 1954، وكانت هي ثاني زيارة الى بيروت تقوم بها فاتن حمامة، إلا أنها لم تكن أول أو ثاني مرة تعرّفت بها الى النجمة الممثلة، بل إن المعرفة بيننا تعود الى ما قبل ذلك، الى اليوم الذي بدأ فيه مشوار فاتن حمامة السينمائي كبطلة في سن الصبا، وليس كنجمة طفلة، وكان التعارف في حفلة أقيمت تكريماً لي في دار الزميلة «أهل الفن» التي كان يصدرها الراحل خليل عبد القادر، وألقيت فيها وكنت ما زلت شاباً وبلا نظارات، خطاباً عن العلاقات الفنية بين مصر ولبنان استمعت اليه فاتن حمامة باهتمام ثم قالت لي بعده: إنني مشتاقة الى اليوم الذي أرى فيه البلد الذي أنجب عشرات من عباقرة الشعر والفن والأدب..
ومن يومها أصبحنا فاتن حمامة وأنا صديقين.
ومع مرور السنين كان يزداد احترامي لفاتن حمامة وتقديري لموهبتها، وإعجابي بإخلاصها الشديد لفنها، وهو إخلاص جعلها تمضي قدماً في التألق على الشاشة، بحيث أنها في كل جيل، كانت تنال أفلامها نجاحاً أكثر من الأفلام التي يمثلها نجوم الجيل نفسه.
ولقد أسعدتني فاتن حمامة قبل أسابيع عندما قالت لي ونحن نتحادث تليفونياً:
- تصوّر عندما تصلني «كل شيء» لا أستطيع أن أنام إلا بعد أن أقرأ كل حرف فيها..
وأضافت:
- إن غياب «كل شيء» في فترة من الزمن، جعلني حزينة، لأنني لم أعد أرى فيها صورة لبنان الجميل الذي أحببته، وعودتها الى الصدور الآن تبشرني بأن ذهابي الى لبنان لم يعد مستحيلاً، ولا بعيداً..
وعندئذٍ، اغتنمت الفرصة وقلت لها:
- إذن تسعدين «كل شيء» لو أتحت لها فرصة للتحادث معك وتصويرك أيضاً في صالون بيتك..
فقالت النجمة الكبيرة بالتواضع الذي يندر أن تجده عند نجمة في مكانتها:
- هذا الحديث يسعدني أنا، ولي الشرف أن أتحدث الى «كل شيء»..
وكل كلمات الشكر لم تكن تكفي، لو جمعتها للرد على هذه المشاركة الحلوة من سيدة الشاشة العربية، خصوصاً وأن ما أعرفه أنها تعتذر عن عدم رغبتها في الحديث أو التصوير للكثير من الصحفيين، الذين يتصلون بها، ولكن، لا تربط بينهم وبينها صداقة طويلة العمر، مثل الصداقة التي تربطني بها، والتي جعلتها تضيء النور الأخضر لكاميرا «كل شيء» لكي تدخل بيتها..
ولعل الصدفة الحلوة وحدها هي التي ستجعل حديث فاتن حمامة ينشر في «كل شيء» في نفس الوقت الذي يعيش فيه اللبنانيون حالة انبهار بها، بعدما رأوا على شاشة التلفزيون المقابلة التي أجرتها في باريس مع المذيع فريدريك ميتران، والتي أعيدت إذاعتها مرة ثانية، بناء على إلحاح ألوف العائلات اللبنانية.
و... الى حديث فاتن حمامة..

{{{

ضحكت فاتن حمامة عندما سألتها عن تاريخ أول زيارة قامت بها الى لبنان وقالت:
- أنت تعرف التاريخ أكثر مني!.
قلت:
• فعلاً، إنه كان في عام 1953!.
وأجابت:
- فعلاً، وكانت زيارتي هذه بدعوة من شركة «نحاس فيلم» ولكي أحضر في بيروت حفلات عرض فيلم من إنتاجها كان إسمه «كأس العذاب» وهو من إخراج حسن الإمام، وفي هذه الرحلة التي كانت سريعة، كنت أنت معي عندما زرت رئيس الوزراء يومها، وكان الأمير خالد شهاب، في مكتبه بالسراي، وفاجأني بأن علّق على صدري وسام الاستحقاق اللبناني!.
قلت لها:
• وكانت هذه أول مرة ترين فيها لبنان، ويراك فيها المجتمع اللبناني، وأنا أذكر أنك يومها كنت موضوع إعجاب شعبي كبير، وكانت هناك حفاوة رسمية بك..
فأجابت ضاحكة:
- هذا صحيح، ولكن صداقاتي في المجتمع اللبناني لم تبدأ في هذه الرحلة، بل كانت بعدها!.
.. وما أذكره أن شركة «نحاس فيلم» التي دعت فاتن حمامة الى بيروت كانت قد أعدت لها قبل وصولها برنامجاً رسمياً، لم تترك لها فيه سوى عدة ساعات لتطوف خلالها في سوق الطويلة، الذي كان أشهر أسواق الأناقة في الشرق الأوسط، وقد كان من ضمن هذا البرنامج أن أصحب النجمة الكبيرة الى زيارة دور الصحف اليومية الكبيرة ورؤساء تحريرها، وكان في مقدمتها: الأوريان، بيروت، وبيروت المساء، ورؤساء تحرير هذه الصحف جورج نقاش، محيي الدين النصولي، وعبد الله المشنوق، عملوا وزراء بعد زيارة فاتن حمامة لهم!.
وقلت لها:
• وهكذا كان وجهك خيراً عليهم!.
وأجابت وهي تضحك:
- الحمد لله!.
قلت:
• ولكن الرحلة الثانية الى بيروت كانت أهم بالنسبة اليك..
فأجابت:
- هذا صحيح، وكانت زيارتي لحضور أول فيلم من إنتاجي، وكان إسمه «موعد مع السعادة» ولكن هذه الزيارة طالت الى ثلاثة أسابيع، عشت خلالها حياة اجتماعية، وباتت لي صداقات لبنانية ما زالت مستمرة حتى الآن، وكنت يومها في ضيافة شركة «دولار فيلم» التي وزّعت الفيلم في لبنان، وكان صاحباها إميل دبغي وبهجت خولي..
قلت:
• وكانا أيضاً معك في أكثر سهراتك الاجتماعية في بيروت!.
فأجابت:
- أيوه، وصار من أقرب الأصدقاء اليّ كمال دبغي وقرينته هيلين، وبهجت خولي وزوجته، وكمال خوري وزوجته، وجو طاهر، وكمال قعوار وزوجته نادية، والحقيقة أنها كانت شلة لطيفة سعدت بها، وكنت أقضي معها سهرات حلوة ومرحة، حتى أنهم تعبوا في النهاية، ورأيت أن أريحهم بسفري الى القاهرة..
قلت:
• وبعدها كثرت زياراتك الى بيروت!
أجابت:
- كثرت جداً، وكنت في كل مرة أحسّ بسعادة أكثر وأنا أرى في كل مرة الحفاوة، واللطف، والتكريم، أينما ذهبت، وحتى الآن أنا لا أنسى كيف أنني عندما وقفت في نافذة سينما «الأمبير» في بيروت أصبت بالذهول وأنا أرى ساحة البرج مزدحمة بالألوف من الناس الذين ما كادوا يرونني حتى ضجّ تصفيقهم وهتافهم لي، إنه مشهد لا أنساه أبداً!.
وأكملت فاتن حمامة:
- إنني أحببت بيروت، ولبنان كله، وأحسست فيها وكأنني بين عائلتي فعلاً، وقد بات لي أصدقاء في لبنان بمثل ما لي أصدقاء في مصر..

■ عن طريق بيروت!

وقلت للنجمة الكبيرة:
• ربما كان أحد أسباب إحساسك بالألفة مع مجتمع بيروت، هو أنك في مصر لم تكوني كثيرة الخروج الى المجتمعات..
فأجابت:
- كنت في مصر مشغولة بتمثيل الأفلام ورعاية ابنتي نادية ذو الفقار، ولم يكن عندي فرصة للاختلاط الاجتماعي، ولكن أهم ما جعلني أشعر بالألفة في مجتمع بيروت هو إحساسي بأنني مع أصدقاء وصديقات بالفعل..
قلت:
• وحتى بعد توقفك عن التمثيل فترة من الزمن وإقامتك في أوروبا لعدة سنوات، كانت عودتك الى السينما والى مصر أيضاً، عن طريق بيروت!.
فأجابت:
- يومها كانت عودتي من أجل تمثيل فيلم «الحب الكبير» مع الموسيقار فريد الأطرش، والصدفة هي التي جعلتني أوافق على المجيء الى بيروت لتمثيله..
سألتها:
• أي صدفة؟
وأجابت فاتن حمامة:
- إنني في ربيع عام 1968 كنت أقيم لوحدي في باريس، وكنت قد أرسلت ابنتي نادية وابني طارق للدراسة في جنيف، وشهدت فرنسا في ذلك الحين إضرابات عمالية فظيعة وطويلة، بحيث أصبحت الحياة فيها صعبة، وفي هذا الوقت بالذات، زارني المخرج هنري بركات، ومعه سيناريو فيلم «الحب الكبير» وقال لي إنه هو الذي سيخرجه إذا ما وافقت..
قلت:
• ووافقت؟
فابتسمت وقالت:
- الواقع أن هنري بركات أثار فيّ الشوق الى السينما، والى بيروت، فإن الفيلم أولاً سيكون من بطولة فريد الأطرش، الذي أشعر نحوه بكل التقدير، بعد أن مثّلت معه من قبل «لحن الخلود» و«حكاية العمر كله»، وأيضاً سيصوّر الفيلم الحاج وحيد فريد، الذي كان معي في مختلف مراحل حياتي السينمائية، وسيُصوّر الفيلم في بيروت، التي لي فيها العديد من الأصدقاء..
وأكملت سيدة الشاشة:
- وهكذا تركت باريس غارقة في الإضرابات، وجئت الى بيروت، وبقيت فيها شهرين كاملين، وفي هذه الزيارة تعرّفت بصديقتي السيدة شيرين عرب وزوجها محمد، وهما ما زالا حتى الآن من أقرب الأصدقاء اليّ!
وسألتها:
• أي مكان تحبينه أكثر في بيروت؟
فأجابت:
- شرفة الجناح الذي كنت أنزل فيه في فندق «سان جورج»، وخصوصاً عندما أجلس فيها صباحاً، وأشعر وكأنني في قلب البحر، وكانت «الترويقة» في الصباح لذيذة وممتعة: لبنة، وزيتون أخضر، وبيض، والبشملة «الأكي دنيا» التي أحبها كثيراً..
وضحكت فاتن حمامة وقالت:
- إن رفيقتي في أكثر زياراتي الى لبنان كافة، كانت صديقتي السيدة بيسة ذو الفقار، رحمها الله، وقد حدث ذات صباح أن جاءني صندوق «أكي دنيا» أو «بشملة» في الصباح، وقلت لصديقتي «بيسة»: تعالي نتسلى بكام حبة!! وشيئاً فشيئاً وجدنا نفسينا، وقد أكلنا ثلاثة أرباع ما في الصندوق.
وأضافت:
- وكمان كنت أحب في بيروت مطعم «العجمي» في آخر سوق الطويلة، وكنت أتناول فيه العشاء الشرقي اللذيذ بعد كل سهراتي التي كان معظمها في السينما أو المسرح، وأيضاً ما زلت أذكر «زحلة» الجميلة، التي ذهبت اليها، وتناولت أشهى المازات فيها، وأنا عائدة من بعلبك، وكان النائب الشيخ خليل الخوري قد دعاني اليها لحضور حفلة لفرقة «ماركو فونتيه» العالمية!.
وسألت فاتن حمامة:
• وآخر رحلة لك الى لبنان، متى كانت؟
فأجابت:
- في عام 1974، وكنت خلالها أمثّل في بيروت مشاهد من فيلم «حبيبتي»، ويومها سهرت عند الصديقة النجمة المطربة صباح وزوجها السابق جو حمود في بيتهما في «الحازمية»، وكان في هذه السهرة كبار الزعماء السياسيين: كميل شمعون، صائب سلام، كامل الأسعد، وريمون إده، وكمان، أذكر أنني دعيت يوماً الى العشاء عند المخرج هنري بركات، وكان مقيماً في عمارة صباح في الحازمية، وجاءت المطربة الكبيرة فيروز، وجلسنا نتحادث أنا وهي.
وأضافت فاتن حمامة:
- على أنني أحسست بمقدمات الحرب اللبنانية يومها، عندما كنا نتناول الغداء في فندق «سان جورج» أنا وصديقاتي: أمل بيضون، شيرين عرب، وسلمى مردم، وقام الطيران الإسرائيلي بغارة على بيروت، وسمعنا دوي القنابل، مما جعل صديقاتي غير قادرات على الذهاب الى بيوتهن..
قلت:
• وبقيت في بيروت رغم ما بدا أمامك من ملامح الأحداث القادمة على الطريق؟
وردت النجمة الكبيرة:
- كنت قد انتهيت من تمثيل «حبيبتي» ودعيت الى حضور مهرجان طهران السينمائي الدولي مع فيلمي «أريد حلاً» فلبيت الدعوة، وتسلمت الجائزة التي نلتها عن هذا الفيلم من فرح ديبا، التي كانت ما زالت يومئذٍ امبراطورة ايران..
قلت:
• كان لبنان أول بلد عربي زرته، وبعده؟
فأجابت:
- من بيروت ذهبت الى دمشق بالسيارة عام 1954 وحضرت عرض فيلمي «موعد مع السعادة» وقمت بعد ذلك برحلات الى: العراق، الأردن، الكويت، وقطر، جدة وزرت جدة أيضاً عندما ذهبت مع زوجي لأداء العمرة.
قلت:
• وما عرفته عنك، أنك أصبحت تهوين السفر؟
أجابت:
- السفر الآن هو من أهم وأحب الهوايات اليّ، وزمان كان السفر صعباً، أما الآن فهو في متناول أكثر الناس، ثم إن ما يجعلني أحب السفر أكثر هو أنني أينما ذهبت أجد أناساً أعرفهم، وفي لندن لا أشعر بالغربة أبداً لأنها مليئة بالأصدقاء والصديقات، وكلما مشيت في أحد شوارعها، لا أكفّ لحظة عن الردّ على تحيات المارة من العرب.

... (البقية على صفحات مجلة "الموعد" النسخة الورقية)