شارع النجوم / أمام تمثال مدام فاتن!
فنانون: فاتن حمامة
صورة من الخمسينات: فاتن حمامة في بيروت مع محمد بديع سربيه

أمام تمثال مدام فاتن!

كتب الراحل محمد بديع سربيه عام 1986:

أعترف بأنني من محبي الفن التشكيلي، ولكنني لست من المتحمسين لمتابعته، ولا أجعل من حضور معارضه شغلاً دائماً لي، تماماً كما أحب كرة القدم، ولكنني لا أجعلها هماً يومياً لي، ولا ألهث وراء كل مباراة تقام، في القطب الشمالي لأعرف من تغلب على من.
ولكن الصدف شاءت لي من خلال أشهر قليلة أن أشاهد معرضين من معارض الفنون التشكيلية التي تقام بكثرة في كل بلد، ولا أعرف أخبارها إلا من الصحف.

الأول هو معرض الملكة السابقة فريدة ذو الفقار الذي أقيم في إحدى قاعات فندق «الميريديان» والثاني هو معرض منحوتات الفنان الشاب عبد العزيز صعب في مبنى مجمع الفنون بالزمالك.
والمعرض الأول ذهبت اليه، وأعترف ذلك بصراحة، لكي أرى الملكة فريدة وليس حباً بمشاهدة لوحاتها!

أما المعرض الثاني فإنني وجدت نفسي متحمساً لزيارته من أجل تمثال مدام فاتن!

إن الذي حدث هو أن الصحف والمجلات امتلأت في الآونة الأخيرة بأخبار عن أعمال فنية على وشك أن تقوم بها سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، ومنها على سبيل المثال أنها سجلت أو ستسجل حالاً قصة حياتها في ثلاثين حلقة تصور تلفزيونياً..
وبين فاتن حمامة و«الموعد» رباط وثيق من الود الصادق.

وأيضاً بين سيدة الشاشة العربية، والمجلة التي أحبتها على مدى السنين، معاهدة غير مكتوبة، ولا متفق عليها شفهياً بل صنعتها الأيام والسنون. وتنص هذه المعاهدة على أن لا تنشر «الموعد» خبراً عن فاتن حمامة سواء كان فنياً أو شخصياً إلا إذا تأكدت من صحته مئة بالمئة وتنص أيضاً على أن لا تخفي سيدة الشاشة العربية عن صديقتها «الموعد» أي خبر صحيح عنها إذا كان من الأخبار المسموح عرفاً وتقليداً، بأن تكون منشورة ومتداولة!.
وعلى مدى السنين، فإن ما تعتز به «الموعد» هو أنه ما من خبر نُشر على صفحاتها عن فاتن حمامة إلا وكان صحيحاً وقد أسعدني أن أسمع منها أكثر من مرة أنها تردّ على الذين يسألونها عن صحة خبر ما نُشر عنها بقولها:
- إذا نشرت «الموعد» هذا الخبر فإنه يكون صحيحاً بالتأكيد!.

وعندما كثرت الأخبار عن تسجيل وتصوير فاتن حمامة لقصة حياتها في التلفزيون، فإنني رأيت أن أتصل بها شخصياً لمعرفة مدى صحة هذه الأخبار!.
وترد فاتن حمامة عليّ بعد أن رنّ جرس التليفون مرة واحدة..
ونتبادل التحيات، والأسئلة عن الصحة والأحوال وآخر الأخبار، ثم أقول لها:

• كالعادة، أريد أن أسألك عن أخبارك.. الصحيحة!
ورنت ضحكتها الناعمة من خلال ثقوب سماعة الهاتف وقالت لي:
- آخر خبر صحيح عني تعال معي لتراه هذا المساء!.
قلت:

• خير!! هل ستبدأين تصوير فيلم جديد؟
فأجابت:
- لا ولكن سأذهب الى مجمع الفنون في الزمالك لأحضر حفلة افتتاح معرض الفنان التشكيلي عبد العزيز صعب!.
وقلت لها:

• هذه أول مرة أعرف فيها أنك من هاويات معارض الفنون التشكيلية..
وعادت ضحكتها الرقيقة ترن من خلال ثقوب السماعة، وقالت لي:
- الحكاية وما فيها أن عبد العزيز صعب أقام معرضه اليوم ليقدم فيه التمثال الذي صنعه لي من البرونز.
صحت بدهشة:

• تمثال؟؟ ولك أنت؟؟ إنه خبر الموسم؟
ولم يطل الحديث التليفوني أكثر من ذلك بيني وبين فاتن حمامة، وتواعدنا على اللقاء بعد ساعات في مجمع الفنون بالزمالك، وأمام التمثال البرونزي..
إنني وصلت الى قاعة المعرض قبل فاتن حمامة بعشر دقائق، وكان هناك جمهور غفير ينتظر حضور سيدة الشاشة العربية بعد أن شاع وذاع أنها ستجيء لمشاهدة تمثالها، ووجدتها فرصة سانحة لأرى التمثال البرونزي لوحدي، وأتأمله جيداً..
ورغم أنني لست خبيراً في الفنون التشكيلية ولا في أمور الرسم والنحت، إلا أنني رأيت أمامي تمثالاً برونزياً هو صورة طبق الأصل عن فاتن حمامة، وحتى نظرة التأمل التي تعبّر عن الشموخ والثقة بالنفس، والتي هي من أبرز ملامح وجه فاتن حمامة، أبرزها التمثال بشكل دقيق، ولولا اللون الخاص للبرونز لتخيلت أن ما أراه هو صورة فوتوغرافية لسيدة الشاشة العربية.
والتقيت في قاعة المعرض بالفنان عبد العزيز صعب، صانع تمثال مدام فاتن - كما كان يقال في المعرض - ووجدتها فرصة لسؤاله:

• ما حكاية التمثال؟
فأجاب:
- إن هوايتي الكبيرة هي صنع التماثيل لمن هم في قمة العبقرية والعطاء، وقد صنعت من قبل تمثالاً للموسيقار محمد عبد الوهاب، والآن أنهيت صنع تمثال فاتن حمامة، وأتمنى أن أصنع تمثالاً للمطربة اللبنانية الكبيرة فيروز..
قلت له:

• ولكن، متى وكيف تفاهمت مع فاتن حمامة على موضوع التمثال؟
فأجاب:
- إن الذي قدّمني اليها هو الدكتور يوسف ادريس، الذي كنت صنعت له تمثالاً، ولم أصادف أي صعوبة في إقناعها بإعطائي فرصة لصنع تمثال لها، لأنها كانت قد شاهدت من قبل بعض أعمالي، ومنها التمثال الذي صنعته للموسيقار محمد عبد الوهاب.
سألته:

• وما الذي اجتذبك الى وجه فاتن حمامة لتصنع لها تمثالاً؟
فأجاب:
- منذ بدء هوايتي للنحت، وأنا أبحث عن وجه يمثّل شخصية المجتمع الأنثوي المصري، ولم أجد خيراً من وجه فاتن حمامة، ليجسّد هذه الشخصية، والدليل على ذلك أن الجماهير أحبتها لا كفنانة فقط بل وكإنسانة أيضاً!.
وعدت أسأله:

• ما الذي كان يهم فاتن حمامة أن يبرز في تمثالها؟
وقال الفنان عبد العزيز صعب:
- إن مدام فاتن فنانة كبيرة، وقد سألتني وهي تجلس أمامي أثناء فترة إعداد التمثال عن أي شخصية أبحث عنها عندها، فقلت لها إن الذي يهمني هو أن يبرز التمثال مزيجاً من شخصيتي فاتن حمامة الفنانة والإنسانة!.
وسأله محرر في «الموعد» كان معي في الزيارة؟

• كيف وجدت شكل وجه فاتن حمامة؟
فأجاب:
- نسب تركيب وجهها هي نسب عربية مصرية قديمة، ووجهها شرقي جداً، وتتمتع بنظرة معينة وشهيرة، وهي نظرة لوم هادئ في حين أنه مؤثر وعميق جداً، وكذلك فإن أنفها مصري تماماً وعيناها تأخذان الشكل «البانورامي» وهي تملك نظرة شمولية لكل ما حولها!.
وعاد المحرر يسأله، بينما أنا مشغول من جديد بتأمل التمثال:

• هل صادفت أي صعوبات مع مدام فاتن خلال عمل التمثال؟
أجاب:
- إنها من الجلسة الأولى قالت لي سأعتبرك مخرجاً، واعتبرني ممثلة وواجب الممثلة هو إطاعة المخرج حتى في الخطأ، وبهذه الديبلوماسية وضعتني في موقف المسؤول عن العمل كله، ولذلك، ومن شدة حرصي على الكمال الفني في التمثال فإنني بعد أن انتهيت من صنعه أردت أن أحطمه، ولكن السيدة فاتن حمامة عارضت رأيي لأول مرة، وبشدة، واختلفنا في الرأي، وعندما وصلنا الى طريق مسدود، طلبت منها أن نحتكم الى آخرين، وفعلاً، ألّفنا لجنة التحكيم من: زوجها الدكتور محمد عبد الوهاب، وابنتها السيدة نادية ذو الفقار، وحماتها السابقة والدة المخرج الراحل عز الدين ذو الفقار، والمذيعة نادية صالح، وأجمع رأي الكل على أن التمثال جيد ورائع، ولكنني عدت وأصررت على تحطيم التمثال لأصنع غيره، وعندئذٍ هددتني مدام فاتن وقالت: إذا خدشت هذا التمثال، فإنني سأرفع قضية ضدك، وتأكد بأنني سوف أكسبها!.
وتعالى التصفيق من حديقة مجمع الفنون في الزمالك، وكان إشارة الى وصول سيدة الشاشة العربية، وهرع الجميع لاستقبالها وهي تطل على القاعة بإشراقة وجهها، وشموخ شخصيتها، وأناقتها الهادئة البسيطة!.
إن فاتن حمامة قصت الشريط إيذاناً بافتتاح معرض الفنان عبد العزيز صعب، وبوصفها ضيفة الشرف، ثم راحت تطوف بين منحوتات المعرض وتتوقف أمام كل منها عدة دقائق، ثم عندما وقفت أمام تمثالها سألتني ضاحكة:
- هل أنا جميلة الى هذا الحد؟
فقلت لها:

• إن عتبي على عبد العزيز صعب هو أنه لم يبرز جمالك كله..
وعادت تتأمل التمثال، ثم قالت لي:
- أتعرف؟؟ إن أكثر ما اجتذبني الى التماثيل التي يصنعها عبد العزيز صعب هو أنها ليست مجرد تماثيل، بل ترى فيها مسحة آدمية.. يعني هو لا يبرز في التمثال الشكل فقط بل الإحساس أيضاً..
... (البقية على صفحات مجلة "الموعد" النسخة الورقية)

«محمد بديع سربيه»